بنفسج

الشيخ حامد البيتاوي: رفيقة النضال ونصفه الآخر [1]

السبت 21 يناير

لم أكد أطرق الباب حتى فتحت لي على الفور حاجة سبعينية، بابتسامة عريضة مشعّة، وقلب أبيض تمتلكه معظم الجدات،  فتحت يديها واحتضنتني: "صفاء مية أهلًا وسهلًا يا خالتو، نورتيني".، وأنا كطفلة صغيرة انسقت إلى أحضانها، مع أني كنت قبلها بدقائق أفرك يديّ توترًا .

الخالة أم حاتم أعرفها من قبل، وما زالت تمتلك ذات الروح التي أذكرها بها عندما كانت تزور بيت جدي، ولكن بعد هذا العمر شعرت بالهيبة من زيارة هذه السيدة الفاضلة، وهي زوجة أحد أبرز علماء فلسطين ورئيس رابطتها لفترة طويلة ، شيخ جليل وتاريخ طويل في النضال والعلم والقضاء، وأحد أبرز مبعدي مرج الزهور، الشيخ حامد البيتاوي.

اصطحبتني من باب المنزل إلى غرفة الجلوس.. بيت كبير يعج بصور الشيخ حامد البيتاوي ، جلسنا سويًا وبدأت حوارنا ، رأيت في عينيها رغبة شديدة في الحديث، تريد أن تسترجع اللحظات والذكريات كأنها اللحظة.

حكاية زواج الشيخ حامد البيتاوي

حامد البيتاوي
بدأت المقدسية غادة خضير التي عرفناها بـ "أم حاتم"  تخبرني لي كيف جمعها القدر بالشيخ حامد البيتاوي: "كنا نقطن في البلدة القديمة في القدس، لا نبتعد سوى بضعة أمتار عن المسجد الأقصى، وكان أبي شيخًا جليلًا، ومن رواد المسجد الأقصى، مضيافًا جدًا، ويحب استقبال ضيوف المسجد الأقصى".
 
كان حامد البيتاوي في بداية العشرينيات من عمره، وجاء بصحبة صديق لوالدي ، أُعجب أبي بالشيخ حامد من اللحظة الأولى التي رآه فيها، ناهيك عما كنا نسمع عنه من خلقه الطيب وحسن سيرته وأصله.
 
تناول الشيخ حامد البيتاوي في بيت غادة  طعام الغداء ، تقول: "بعد تناولهم الغداء، سأله أبي: هل أنت متزوج؟ فقال له: لا، ولكني أبحث عن فتاة مسلمة، وأسأل التوفيق في هذا،  سمع أحد أصدقاء أبي حديثه، وبادر قائلًا: "أبو قاسم لديه بنتان في سن الزواج إن أردت أن تخطب إحداهما، فقال حامد البيتاوي: "لي الشرف".

بدأت المقدسية غادة خضير التي عرفناها بـ "أم حاتم"  تخبرني لي كيف جمعها القدر بالشيخ حامد البيتاوي: "كنا نقطن في البلدة القديمة في القدس، لا نبتعد سوى بضعة أمتار عن المسجد الأقصى، وكان أبي شيخًا جليلًا، ومن رواد المسجد الأقصى، مضيافًا جدًا، ويحب استقبال ضيوف المسجد الأقصى الذين يأتوا زوارًا من كل مكان ، وكان الشيخ حامد البيتاوي في بداية العشرينيات من عمره، وجاء بصحبة صديق لوالدي ودعاهم يومها على الغداء ،  أُعجب أبي بالشيخ حامد من اللحظة الأولى التي رآه فيها، ناهيك عما كنا نسمع عنه من خلقه الطيب وحسن سيرته وأصله.

وكما يُقال في الأمثال الشعبية "اخطب لبنتك ولا تخطب لابنك"، ولكن والد الحاجة أم حاتم، كغيره من الفلسطينيين، يقول المثل ولا يقوى على تطبيقه، فهل يطلب الشيخ حامد البيتاوي لابنته غادة؟ تجيب أم حاتم هنا على هذا التساؤل: "بعد تناولهم الغداء، سأله أبي: هل أنت متزوج؟ فقال له: لا، ولكني أبحث عن فتاة مسلمة، وأسأل التوفيق في هذا ،  سمع أحد أصدقاء أبي حديثه، وبادر قائلًا: "أبو قاسم لديه بنتان في سن الزواج إن أردت أن تخطب إحداهما، فقال حامد البيتاوي: "لي الشرف".

حامد البيتاوي

تهلل وجه الشيخ أبو قاسم، ولكن لا غبن في مثل هذا الأمر، فابنته غادة بعيدة كثيرًا عن مواصفات الفتاة التي يريدها البيتاوي ،  فهي لا تعرف كثيرًا في الدين ولا ترتدي الحجاب، وعندما أخبره أبو قاسم بهذه المواصفات، قال له: "هل ترضى بها على هذا الحال؟". فردّ الشيخ حامد البيتاوي: "موافق، أليست مسلمة، الله سيتم عليها دينها بإذنه".

كانت الحاجة غادة تسكن في حارة أغلب قاطنيها من المسيحيين، تحيط بهم الكنائس من كل الجهات، وكانت وأسرتها العائلة المسلمة الوحيدة في تلك المنطقة ، لم تكن ترتدي الحجاب ولا تعرف الصلاة حتى، رغم أن والدها شيخ ومحافظ جدًا، ولكن لم يكرههن على أمور دينهن، وعندما عرض عليها والدها نية خطبة الشيخ حامد البيتاوي لها رفضت واستنكرت لعدة أسباب، تقول: "أول أسباب رفض كان تدينه، ثانيًا كنت لا أخرج من البيت إلا بصحبة أخواتي وأمي، لذلك شق عليّ أن أخرج من القدس إلى مدينة بعيدة جدًا بالنسبة لي، خصوصًا أن السفر بين المدن في ذاك الوقت لم يكن سهلًا ، واضافة ً إلى ذلك فإن الشيخ حامد  البيتاوي كان من قرية بيتا، والقرى كانت في ذاك الوقت لا يصلها تمديدات الماء و الكهرباء وبيوتهم بسيطة وصغيرة جدًا في الخلاء.

أصر أبي كثيرًا عليّ، وحاول إقناعي وقال لي يومها: "هذا الشاب سيكون ذو شأن كبير في المستقبل، فلا ترفضي يا ابنتي، سيصيبك معه خير كثير"... تمت الخطبة وبقينا شهرًا كاملًا على قراءة الفاتحة، يزورني بشكل متكرر، ولا أذكر  حينها أنه فتح معي موضوع الدين أو الحجاب ، وبعد شهر عُقد القران، وكان وقتها كاتبًا شرعيًا في المحكمة الشرعية بنابلس".

 

حامد البيتاوي
السيدة غادة خضير زوجة الشيخ حامد البيتاوي

 التحول في شخصية زوجة حامد البيتاوي

كان الشيخ حامد البيتاوي داعيةً وخطيبًا وإمامًا في المساجد والندوات والتجمعات، يحثّ الناس على اتباع شؤون الدين، والنساء على التعفف والتستر، فكيف يبدأ دعوته مع زوجته وشريكة حياته. . تقول أم حاتم: "كان الشيخ حامد في فترة الخطوبة يحضر لي بشكل مستمر، كتيبات دينية تخص فقه المرأة، ويأخذني لزيارة زوجات أصدقائه في نابلس، فأجلس معهن في حلقات تفكّر وتعلّم الدين ، ولا أنسى فضلهنّ عليّ، وحتى اليوم تربطني بهنّ علاقة قوية، وهنّ زوجة الشيخ سعيد بلال، وزوجة أبو حسان البشتاوي، وزوجة جمال الكايد.

وخلال الخطبة،و بحسن دعوته لي، وصلاح الصحبة التي تعرفت عليها، أخذتني الصديقات الثلاث، بعد أن اقتنعت، وقطعن لي قماشًا لتفصيل حجاب وجلباب يناسبني، وارتديته بعد زواجي مباشرة".

كانت الحركة الإسلامية حديثة البروز في فلسطين وقتها ، لذلك من النادر رؤية الحجاب بشكله السليم، وهذا ما زاد صعوبة الأمر على الحاجة غادة التي بدأت تسير عكس التيار في أشد وأصعب حالاته، فكيف كان حالها؟

حامد البيتاوي

تجيب: "عندما زرت أهلي لأول مرة في الجلباب صُدم الجميع من شكلي، لم يكن الجلباب ولا الحجاب حتى أمرًا متعارفًا عليه، كنت عندما أمشي في الشارع أسمع كلامًا وانتقادات واستهزاء ، لم يكن الدين متغلغلًا في قلبي كثيرًا حينها، فأعود إلى المنزل باكية، حتى يأتي الشيخ حامد البيتاوي الذي يحتوي هشاشتي في الدين، وبأسلوب ليّن محبب يطبطب عليّ، ويجعل من ذلك فرصة ليمكّن فيّ أساسات هذا الدين.، حتى الصلاة كنت في البداية أصليها بشكل متقطع، ولكن زوجي لم يكن زوجي وحسب، لقد كان معلمي وشيخي، هو من نقلني بفضل الله من الظلمات إلى النور، وبيّن لي طريق الحق حتى تمكنت فيها".


اقرأ أيضًا: ساجدة أبو الهيجا: سفيرة العائلة وأم أبيها وأمها


تضيف الحاجة غادة: "كان الشيخ حامد البيتاوي، إلى جانب كونه كاتبًا في المحكمة، خطيبًا في المسجد، وكنت ألخّص له الخطب بنفسي ،  يكتب هو المسودة، ويعطيني بعض الكتيبات لأستعين بها لتلخيص خطبته بشكلها النهائي بنفسي ، كان خطيبًا مفوهًا ولا حاجة له بمن يكتب له الخطب، ولكنه اتبع هذا الأسلوب معي ليخرجني من روتين الأعباء المنزلية، ويشاركني في عمله، وفي ذات الوقت، كان دعوة مبطنة منه، فحتى تكتمل هذه الخطب، عليّ قراءة عدة كتب دعوية، مما كان له الأثر الكبير عليّ ، وكان يراني وأنا أقرأ الكتب ودموعي تنهمر، ويقول لي: "أنا مستبشر فيك الخير، بذرتك طيبة، وقلبك نقيّ، وسيكون عامرًا بالإيمان".

روح الشيخ حامد الببتاوي بين أهله

حامد البيتاوي
تضيف المقدسية أم حاتم: "لا أنكر أنه كان شديد الانشغال، وربما كانت هذه العقبة الأكبر في حياتي، فكان يغيب بالأيام والأسابيع، ويعود أحيانًا بعد منتصف الليل في سبيل الدعوة وإصلاح ذات البين، حتى أنه في بعض الأحيان، وبعد أن يعود متأخرًا، ولا يكاد يضع رأسه على السرير حتى يدق الباب ويأتينا زائر جديد لحل مشكلة أو استشارة.

يُقال الوطن حيث تشعر بالأمان والحب، حيث يوجد من تحب، كان خروج الحاجة غادة من القدس بمنزلة غربة لها في البداية، ولكن الشيخ حامد البيتاوي لم يكن زوجًا وحسب، بل كان الصديق والأخ والأب وكل شيء لها، فلم تكن غربة كما ظنت، بل وطنًا جديدا ً،  فتقول: "كان حنونًا بشكل لا يمكن وصفه، مزوحًا وخفيف الظل، ما إن يدخل إلى البيت حتى ينزع عباءة القاضي الثقيلة وعمامته التي صبغته بالجدية، فيلاعبنا ويمازحنا " .

" وكان يمثل المعنى الحقيقي لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيركم خيركم لأهله ،  كان بارًا بأهل بيته،  بارًا جدًا بأمه وأبيه ،  أذكر أيام الانتفاضة، كان يصعب التنقل بين المدن، وأحيانًا حتى الخروج من المنزل، ولكنه كان يصرّ على مواجهة المخاطر ليزور والديه في قرية بيتا مهما كلف الثمن، وكما يُقال صلاح الأبناء من صلاح الآباء، فبره بأهل بيته أخرج من نسله ذرية بارة بأهل بيتها".

حامد البيتاوي

تضيف المقدسية أم حاتم: "لا أنكر أنه كان شديد الانشغال، وربما كانت هذه العقبة الأكبر في حياتي، فكان يغيب بالأيام والأسابيع، ويعود أحيانًا بعد منتصف الليل في سبيل الدعوة وإصلاح ذات البين، حتى أنه في بعض الأحيان، وبعد أن يعود متأخرًا، ولا يكاد أن يضع رأسه على السرير ،  حتى يدق باب بيتنا ، ويأتينا زائر جديد لحل مشكلة أو استشارة، فأتململ أنا وأنزعج، فيقول لي الشيخ حامد: "في سبيل الله، ولو لم يكن الأمر طارئًا لما جاؤوني في هذا الوقت" ، كان الأمر مرهقًا لي في البداية، حتى أنه لشدة غيابه وانشغاله ينسى أبناءه في أي الصفوف هم، ويحاول تعويض ذلك النقص بأخذ الأطفال إلى المسجد بنفسه والنوادي والأنشطة، ولكن عمله كان دومًا يسرقه منا".

كان بعض الشيوخ يصحبون نساءهم معهم في زياراتهم الدعوية، ولكن الشيخ حامد البيتاوي لم يرد أن يؤثر عمله على بيته، فتقول الحاجة غادة: "ركّزت جلّ اهتمامي في تربية أبنائي، لأعوض غياب والدهم، فإذا خرجت مع زوجي لنغرس أسسًا تربوية في الناس، فمن يربي أبناءنا ،  الحمد لله أنجبت 6 رجال، جميعهم يحملون الشهادات العليا، منهم القضاة ومنهم المهندسين ومنهم الصحفيين، كما أن لي بنتًا تخصصت في الهندسة الكيماوية، ولكنها سارت على حذوي، فقدر لها الله أن تتزوج وتغترب عن فلسطين كما تغربت، يومًا عن القدس".

غياب قسري للشيخ حامد البيتاوي

حامد البيتاوي
 
"زوجي كان يغيب كثيرًا عن البيت، ولكن بالطبع، كان الاعتقال شيئًا آخر، فهو إن غاب في الأيام العادية، فأنا أعلم أنه في طريق الدعوة بين إخوانه، وسيعود بعد بضعة أيام حاملًا معي  أعباء المنزل المادية والمعنوية أيضًا "
 
 " فهو وإن غاب  حاضر سيعود في نهاية اليوم، أفضفض له، ويخفف عني ويطبطب على قلبي، ويقوم بما ما لم أقدر عليه ، لكن السجن شيء آخر .. غياب طويل، وانقطاع الاتصالات والأخبار، فمن يحمل همّ البيت والأولاد معي  ؟ أسئلة لا متناهية تدور بيني وبين نفسي، وأخرى أصعب يطرحها الأطفال عليّ: "متى سيعود بابا، ليش أخدوه، وين أخدوه..".

اعتقلت قوات الاحتلال الشيخ حامد البيتاوي 4 مرات خلال فترة ارتباطه بأم حاتم، وأُبعد إلى مرج الزهور مع ثلة من علماء فلسطين ورجالها، ناهيك عن مضايقات السلطة الفلسطينية له واعتقاله أكثر من مرة، اضافة إلى أنه منذ عام 1979، وهو ممنوع من السفر حتى نهاية عمره.

تقول أم حاتم: "زوجي كان يغيب كثيرًا عن البيت، ولكن بالطبع، كان الاعتقال شيئًا آخر، فهو إن غاب في الأيام العادية، فأنا أعلم أنه في طريق الدعوة بين إخوانه، وسيعود بعد بضعة أيام حاملًا معي أعباء المنزل المادية والمعنوية أيضًا، فهو وإن غاب حاضر سيعود في نهاية اليوم، أفضفض له، ويخفف عني ويطبطب على قلبي، ويقوم بما ما لم أقدر عليه. . السجن شيء آخر، غياب طويل، وانقطاع الاتصالات والأخبار، فمن يحمل همّ البيت والأولاد معي؟ أسئلة لا متناهية تدور بيني وبين نفسي، وأخرى أصعب يطرحها الأطفال عليّ: "متى سيعود بابا، ليش أخدوه، وين أخدوه..".

حامد البيتاوي

لا يعتاد الإنسان على المر مهما حاول، وهذا ما حدث مع الحاجة غادة التي لم تعتد على السجن، فلكل اعتقال صعوبته،  "الاعتقال الأول كان في التسعينيات، كان أصعب اعتقال، لأنهم اعتقلوا معه ابني الكبير حاتم، كان وقتها طالبًا في سنته الجامعية الأولى، وابني مجاهد كان في الثانوية العامة .. زوجي وأبنائي في السجن وتزامن ذلك مع حرب الخليج،ولا أحد لي هنا، أهل زوجي يسكنون بعيدًا عني وأهلي كذلك ، كانت مرحلة شاقة عليّ من كل النواحي النفسة والمادية.

الاعتقال الثاني ليس أسهل من الأول، فالأول اعتقلوا أبنائي معه، أما الثاني فاعتقلوه ووضعه الصحي صعبٌ بسبب السكري، وكنت خائفة عليه، ولا شيء يبرد نار قلبي أو يخفف من حدة قلقي إلا رسائل تأتي كل عدة شهور مرة، فلم يكن هناك اتصالات ولا زيارات كونه في النقب، وكانت الزيارات شبه مستحيلة وقتها ، ولكن عون الله لي ومعيته كانت من قبل ومن بعد خير مخرج وفرج من أي ضيق".


اقرأ أيضًا: ماهر وبهية: مؤبدان وحب واحد


في عام 1992 وأثناء وجوده في بيتا، حيث كان عزاء والده، اختطف الشيخ حامد البيتاوي، وكانت زوجته وعائلته يظنون وقتها أنه اعتقال، لكن انقطعت الأخبار بعدها، حتى الصليب الأحمر لم يكن يعرف أين هو، ليتبين بعدها أنه إبعاد مع ثلة من علماء وشيوخ فلسطين ومقاوميها وخيرة شبابها، حيث رمتهم الحافلات الإسرائيلية، وهم مغممين على الحدود اللبنانية في العراء والبرد ،  ظلوا هناك لعام كامل، تقول أم حاتم: "لم يكن حالي أفضل من المبعدين، ربما هم في الخيم والبرد، وأنا تحت سقف وبين الجدران، ولكن قلبي وتفكيري كانا معه، بين تفكيري بصحته ومأكله وأحواله، وتفكيري بنتيجة هذا الأمر : هل سيعود أم لا، وكيف ومتى .. كان الإبعاد أشد من أي اعتقال سبقه أو لحقه".

حامد البيتاوي

تضيف الحاجة غادة: "رغم صعوبة الموقف الذي عاشته كل أسرة مبعد، فقد أراد الاحتلال من هذا الإبعاد تشتيت المقاومة وانهاءها، والاستفراد بعقول الفلسطينيين، ولكن حصل العكس، فقد شدّ من عزيمة الفلسطينيين أكثر، وفتح الفرصة لجمع عدد كبير من خيرة أبناء فلسطين في مكان واحد، ليعيدوا تشكيل أنفسهم بشكل منظم وأكثر تأثيرًا ، ومن ناحية أخرى، كان للابعاد أثر عالمي، فالأرض التي يزعم الاحتلال أنها بلا شعب، هذا هو شعبها كله مثقفين ومهندسين وشيوخ وعلماء، تتوافد عليهم الصحافة الأجنبية، وتصور حالهم وأحوالهم ليظهروا من هم، وأذكر أن أحد المراسلين الأجانب يومها بعد لقائه مع الشيخ البيتاوي أعلن إسلامه.

خلال إبعاد مرج الزهور، عاد حاتم الابن الأكبر للشيخ حامد البيتاوي، وكان طالبًا في سنته الثانية في الجامعة الأردنية، ولما أبعد والده، عاد ليكمل تعليمه في فلسطين، وكان يعمل في ذات الوقت ويتدبر شؤون المنزل ، تقول زوجة حامد البيتاوي: "لطف الله بهم، ودعاء والدهم لهم بشكل كبير، جعلهم أكبر عوض وسند لي، فرغم صعوبة تلك المرحلة في ظل كثرة عددهم وتقارب أعمارهم، كانوا رواد مساجد محاطين بالصحبة الصالحة، متمسكين بكتاب الله وحافظين له، وكما تدين تدان، فقد كانوا بارين بي وبوالدهم، كما فعل الشيخ أبو حاتم من قبلهم، وقلبهم عامر بالحنان ، وكانوا عونًا وسندًا، ونعم الأبناء لعالم فلسطين الجليل".